Powered By Blogger

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 20 مايو 2010

د. أحمد عكاشة يكتب: حديقة الحيوان البشرية: عن نفسية السجين.. والسجان

قام عالم سلوك الحيوان ديزموند موريس فى كتابه الشهير «حديقة الحيوان البشرية «The Human Zoo» بشرح سلوك الحيوان فى حديقة الحيوان مقارنة بسلوكه فى الغابة، عندما تحرمه من الحرية وتضعه فى قضبان من الحديد وتأسره فى قفص كتسلية للمترددين على حديقة الحيوان، حينئذ يتغير سلوكه كلياً ليصبح عدوانياً، عاجزاً، يائساً بل يهجم أحياناً على من يطعمه وهكذا يناقض تماماً سلوكه فى الغابة، حيث يتميز بالشجاعة ولا يهاجم فريسة إلا إذا كان جائعاً ويتمتع بوجوده فى جماعته ويتوحد معها، ومن هذا تظهر جلياً قيمة الحرية عند الحيوان والمأساة المترتبة على أسره فى قفص، ثم استطرد بأن هذا يتطابق مع الشعوب التى تعيش فى حديقة حيوان بشرية،

ويعنى بهذه الشعوب التى حرمت من الحرية والآدمية، والتى كبلت وغلغلت أفكارهم ووضعت فى قوالب متشابهة مع إحساسهم بالظلم، وإنهم يسيرون فى حياتهم كالإنسان الآلى الذى وجب عليه الالتزام بما هو مفروض عليه، وليس له أدنى الحق فى المطالبة بحقوقه وإلا اعتقل لأفكاره ومعتقداته المخالفة لما هو مفروض،

فلا يوجد إذن احترام لإنسانيتهم، وعند ممارسته القمع والقهر على أفكارهم، يتغير سلوكهم من التسامح ومساعدة الغير والوسطية إلى التطرف والتمركز حول الذات وعدم الانتماء إلى الجماعة والعدوانية، ويصبحون عرضه للإحساس بالعجز واليأس وعدم القدرة على الابتكار أو إتقان أى عمل، ويفقدون الانتماء للقيم أو الأخلاق مقارنة بهؤلاء الذين يتمتعون بالعدل وحرية التعبير عن الرأى والإحساس بالشفافية والمساءلة.

كما أوضح أيضاً ديزموند فى كتابه أن الحيوانات تميل إلى العدوانية إذا زاد تكدسها فى مكان واحد وفقدت مساحاتها الشاسعة، وإذا قمنا بتطبيق هذا على المجتمعات البشرية التى تعانى من التكدس السكانى فى مساحات ضئيلة من الأرض لوجدنا أنهم يفتقدون الإحساس بالحرية والتمتع بالخصوصية، ويعتبر هذا من العوامل المهمة لظهور العدوانية والأنانية، فيتحول الإنسان الذى وصف بالطيب إلى طاغية وقاس، وقد يحدث ذلك تحت ضغط أخلاق وسلوك الجماعة.

ويذكرنى ذلك بالتجربة التى قامت بها جامعة ستانفورد لدراسة ردود أفعال الناس العاديين فى وضع كوضع نزلاء وحراس السجون، وذلك بتصميم بحث يتضمن وضع مجموعة من المتطوعين فى ظروف محاكية لظروف السجون، بعضهم يقوم بدور السجناء، وبعضهم يقوم بدور الحراس، وذلك من أجل خلق ردود أفعال نفسية متباينة، من نوع:

مشاعر القوة والعجز، والسيطرة والاضطهاد، والإشباع والإحباط، والحكم الاستبدادى ومقاومة السلطة، وأثبتت التجربة أن حرمان الفرد وتجريده من كل حقوقه الإنسانية بعزله فى زنزانة مغلقة يجعله عرضه للتغير فى السلوك مع الشعور بالعجز واليأس والانهيار النفسى،

كما أظهرت أيضاً أن السجان أو الحارس حين منح القوة المطلقة، بدأ فى إصدار الأوامر وتعذيب السجناء مما جعله يتعلق بالتجربة ويصر على الاستمرار فيها، ومن هنا نستخلص أن من يمارس السلطة المطلقة دون مساءلة أو ردع تتغير شخصيته ويصبح توحده مع هذه السلطة المطلقة هو بمثابة شهوة قوية تجعله لا يستطيع العودة إلى طبيعته الأولى،

ولذا شددت كل دساتير العالم على ضرورة احترام حرية الفرد وتبادل السلطة حتى تنهض الأمم، ويشعر مواطنوها بالكرامة والعزة، حيث يوجد الكثير من شعوب العالم مغلوبة على أمرها تعيش متغلغلة فى سجن كبير يعانى فيه المسجون من ويلات القهر بينما يتمتع فيه السجان بسلطته المطلقة.

ومما سبق نستنبط إذن محورين حيويين: أنه يجب تعميم المعاملة الإنسانية على جميع المساجين أو الشعوب المسجونة فكرياً، والابتعاد الكامل عن منح السلطة المطلقة للأفراد المسؤولين دون رقابة صارمة.

ها هى سلطة تجريبية، وأشخاص خالون من الانحراف النفسى، ومع ذلك نشأت لديهم «متعة» خبيثة من ممارسة السلطة والتسلط على مقهورين خانعين، أليست هذه صورة صارخة لنفوذ السلطة على النفوس الإنسانية، وفضح آلية تحول الكائن الإنسانى إلى وحش أعمى يعربد استمتاعاً بالسلطة والتسلط.

وينتهى بنا القول إلى أن القوة والسلطة المطلقة ما هى إلا مفسدة مطلقة وأنه مهما كان الفرد يتحلى بكل السمات الناضجة فى الشخصية، وذا ثبات انفعالى، ويتحلى بمكارم الأخلاق فالإحساس بالقوة المطلقة وعدم التعرض للمساءلة يؤدى إلى تغير تام فى الشخصية واستعذاب إيقاع القمع والقهر وهدر حقوق الآخرين،

وأيضاً الاستمتاع بهذا الدور والتعلق الشديد بالمنصب الذى يؤمن له هذه السلطة المطلقة. وإذا طبقنا هذه المقالة على الوضع الراهن فى كثير من البلدان العربية فسنجد أن السلطة المطلقة والإذعان القهرى لأفراد الشعب والفجوة المتسعة بين الشعب والسلطة القهرية أدت إلى حالة من اللا مبالاة والتبلد، الخنوع والاستسلام بحيث أصبح المواطن ليس لديه الرغبة فى إتقان عمله،

وتولدت لديه سلوكيات العبيد من النفاق والتملق، والمداهنة، والكذب، ولكى نعود بالشخصية العربية لسابق عهدها وجب علينا محاربة بؤر الفساد، وتحديد السلطة والابتعاد عن أن تكون السلطة الممنوحة مطلقة لكى تعود كرامة المواطن العربى لما كانت عليه من رفعة وعزة.

فلنبدأ إذن بنزع القيود الحديدية التى تكبل الآمال والأفكار والقيم والأخلاقيات والأهداف فمن خلال تجاربى المتعددة والمبنية على احتكاكاتى بجميع طبقات المجتمع من غفير إلى وزير ومن أستاذ جامعى إلى رئيس عمال، ومن رئيس تحرير إلى رئيس قسم ثبت لى بما لا يدع مجالاً للشك أن الاستمرار فى السلطة المطلقة له تأثير سيئ على شخصية المواطن، وتعوقه عن الاهتمام بالآخرين والتمركز بالتالى حول الذات،

فيصبح الكون يدور فى فلكه هو دون الآخرين فهو الوحيد الذى يعلم ببواطن الأمور، فهو يعتقد أنه أصبح مبعوث العناية الإلهية!! لذا فإن تبادل السلطة والإحساس الدائم بالتعرض للمساءلة هو الحل الوحيد للنهوض بالصحة النفسية لشعوب العالم المقهورة والمقيدة فى أغلالها.

إن السلطة والقوة مرضان لهما البريق والسيطرة، بل أحيانا شهوة السلطة تتفوق على مشاعر الأبوة والأمومة وكم من روايات فى التاريخ تخلص فيها الأب أو الابن من الآخر فى سبيل شهوة السلطة المطلقة.

لا مانع من السلطة ولكن يجب أن يسودها العدل والمساءل

الأربعاء، 3 مارس 2010

مذكرات المفكر الكبير د.مصطفى محمود التى سجلها قبل وفاته: (الحلقةالأخيرة)..الشائعات تطاردنى دائماً

■ فى القاهرة تجد بين كل مقهى ومقهى.. «مقهى»

■ وفى بيروت تجد بين كل كباريه وكباريه.. «كباريه»

■ وفى سويسرا تجد بين كل بنك وبنك.. «بنكاً»

■ وفى طنطا تجد بين كل جامع وجامع.. «جامعاً»

■ من أدلة الرخاء فى بلد ما أن تجد زحاماً شديداً فى المكتبات وطوابير على أبواب المسارح ودور السينما.. هذه أشياء لا يفكر فيها الناس إلا بعد أن يشبعوا.. فالناس تتشدق بالواقع.. وتحتكم إلى الواقع ومع ذلك فلا أحد يريد الواقع.. وإنما الكل يطالب بتغيير الواقع.. ويحلم بالخلاص من الواقع

مصطفى محمود

عندما حاولنا مواصلة ما تبقى من المذكرات الشخصية، وأدق الأسرار والتفاصيل الحياتية للدكتور مصطفى محمود، وجدنا أن الإجهاد قد ظهر عليه، وأمراض الشيخوخة نالت منه، وضعفت الذاكرة حتى عجزت عن سرد الكثير من تجاربه، ولهذا تكلم فى نهاية حديثه عن موقفه من الأحزاب السياسية، والشائعات التى طاردته، وصداقته بموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، وسر الشبه بينه وبين عبدالحليم حافظ، فقال: «كنت ومازلت مقتنعاً بأن هناك الكثير من الناس سمعوا ودرسوا السنة، لكنهم فهموها خطأ،

وللأسف أصبحوا الآن كثيرين جداً، وهؤلاء تمسكوا بظاهرها وقالوا يجب أن نأكل بأصابعنا، وأن نمد اللحى بشكل ما، ونقصر الثوب، ونركب البغلة، ودائماً ما كنت أقول إن هؤلاء نسوا أن السنة ليست الأعراف السائدة فى عصر من العصور، لكن هى أخلاق النبى، عليه الصلاة والسلام، فما فائدة أن يقصر الإنسان لحيته أو يتركها وهو إرهابى، والغريب أن هؤلاء يطبقون السنة فى مواقف، ويتجنبونها فى مواقف أخرى، فخطبة الجمعة فى عهد النبى لم تكن تتعدى دقائق قليلة، أما الآن فتستغرق ساعة، وهذا يدل على سماحة الإسلام، وأن النبى كان يخفف على الناس، ولا يسبب الرعب، أو يثير المشاعر، وكان رحيماً بهم، فحينما دخل مكة منتصرا سأل الكافرين ماذا تظنون أنى فاعل بكم؟

قالوا (أخ كريم وابن أخ كريم)، فقال لهم (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، لكن ماذا حدث حينما دخل الخومينى إيران، كان منظراً تقشعر له الأبدان، حين علق خصومه على المشانق، وكنت أتأمل المشهدين طوال الوقت، وأتساءل دائماً أيهما الإسلام الحقيقى؟ ووصلت إلى ضرورة أن نتفهم جوهر الموضوع، فالإسلام هو إحياء الضمائر، فلا يمكن تطبيق الإسلام بقرار وزارى، أو إجماع من مجلس الشعب، لكن بعض الناس فهموا المسائل خطأ، فلا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا كان الإسلام تقدميا بطبعه واجتهادياً معاصراً، فلماذا إذن العودة إلى السلفية الجامدة التى أصبحت موجودة على الساحة فى هذه الفترة؟!

وأنا متابع جيد لها، حيث أستطيع القول إن كل شخص يتصور أنه «مفتى» فى الإسلام، خاصة بعد ظهور مشايخ وفتاوى الفضائيات التى أصبحت منتشرة، وتمارسها مجموعة من غير المتخصصين، ودائما كان هؤلاء يكفروننى عندما أختلف معهم فى رأى، وهذه أخلاق غير إسلامية على الإطلاق، فالإسلام دين اجتهاد وعقل».

ويواصل المفكر الراحل: «أما بالنسبة لجماعة الإخوان المسلمين، فلا دين فى السياسة، ولا سياسة فى الدين، ولكى أوضح رأيى فى هذه الجماعة وغيرها من الجماعات التى كثيرا ما حاولت معى لكى أنضم إلى صفوفها فى مراحل عمرى المختلفة، فهناك نكتة إنجليزية شهيرة توضح أن الدين والسياسة لا يتفقان فتقول (وجد شخص تابوتاً مكتوباً عليه هنا يرقد السياسى العبقرى والرجل الصادق فلان، فقال الرجل أول مرة أجد اثنين مدفونين فى تابوت واحد)، فالسياسة تحمل داخلها الكذب والانتهازية، والدين يحمل داخله القواعد والتسامح والسلام، وظللت عمرى كله أحمل راية الدفاع عن الإسلام من «الإخوان»، وغيرها،

لكن رغم انتقادى هذه الجماعة ورفضى شعارها (الإسلام هو الحل)، فإن بين أعضائها شخصيات مستنيرة، وأهم ما يميزها أنها تمثل نسيجاً واحداً منذ نشأتها على يد حسن البنا وحتى الآن، لكن هذا لا يبرئها من أن بينها أيضاً شخصيات غير ناضجة، ومندفعة، ومتعصبة، والدليل على ذلك إصرارها على تأسيس حزب سياسى، رغم أن هذه الخطوة أثبتت فشلها منذ قيام الثورة وحتى الآن، إلا أنها مازالت متمسكة بها، رغم استحالة تأسيس الحزب، لما فيه من تهديد للوحدة الوطنية، ولذلك كنت على الدوام ضد دخول الدين فى السياسة نهائياً، ورأيى هذا وصلت إليه بعد أن أمعنت التفكير، لأن السياسة خليط من الكذب، والالتواء، والانتهازية، ولابد من تنزيه الدين عنها،

وأفضّل أن يكون دور الدين فى هذه المرحلة الحزبية التى نعيشها هو إحياء الضمائر، فأخطر شىء يهدد المجتمع هو إدخال الدين فى السياسة، فدور الدين يجب أن يقتصر على توعية وإحياء ضمائر الناس، ثم إن الإسلام فى تاريخه لم يكن سياسة ودينا إلا فى مرحلة النبى، وأبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وبالطبع هؤلاء استثناء، وإذا وجدنا مثل سيدنا عمر بن الخطاب - وهذا مستحيل - سنؤسس به أعظم حزب، ولهذا كنت على الدوام أرفض الموافقة على حزب سياسى للإخوان أو الأقباط، كما أرفض الانضمام للجماعة، أو حزب حتى أظل أقوم بدورى، وهو حماية الدين من هؤلاء».

وحول علاقته بالعندليب الأسمر عبدالحليم حافظ، قال: «كلما كنت أنظر إليه كنت أرى عللى، وأمراضى، فصوته كان يحمل الأسى والحزن والبؤس والرقة والعذوبة، ولهذا نجح، لأنه استطاع أن يهز المشاعر والأحاسيس بصوته العذب الرقيق، وأتذكر أننى عندما قابلته لأول مرة فى منزل عبدالوهاب، قال لى (سمعت أنك فنان وعازف موسيقى جيد للعود والناى وصاحب صوت جميل)، فقلت له: (لكننى لم أعزف بوق فى يوم من الأيام لأننى ولدت أتنفس برئة واحدة)، وتبادلنا الحديث طويلاً فى تلك الليلة، وتقابلنا بعد ذلك كثيراً، لكن علاقتى به لم تكن عميقة، أى لا يمكن أن نطلق عليها كلمة صداقة،

بينما علاقتى بعبدالوهاب كانت مختلفة عن علاقاتى بالآخرين، وهو كذلك أيضا، ولعلها كانت متميزة جداً، وكنت أناديه بـ(عبدالورد)، وكان هو ينادينى بـ(درش)، وكانت علاقتنا حميمية إلى أبعد الحدود، فقد كان يتصل بى أكثر من ١٠ مرات يومياً، ويظل معى على التليفون بالساعات ليلاً، ومن خلاله تعرفت على معظم الفنانين، وتعلمت منه بعض العادات الحميمة، فلم أشاهده يشرب الماء إلا وعليه قطرات من ليمون، وعندما كنت أسأله عن السبب كان يقول لى إن المياه تكون صحية ونقية وتشفى من الأمراض، وأحيانا يداعبنى بقوله (إزاى إنت دكتور ومتعرفش الحاجات دى؟)

ومن بعدها ودون تردد لم أشرب الماء إلا بعد تقطيره بالليمون، وعرفت بعدها أن هذه هى الطريقة المثلى للتخلص من الأمراض، وعرفت من يومها أنه كان طبيباً لم يدرس الطب، وهكذا كنت أقول له دائماً، وكان هو يرد بأننى فنان لم أدرس الفن، وكل ما يمكن أن أقوله عن (عبدالورد) الذى لا تسعفنى الذاكرة الآن لذكره، موجود فى مقال كتبته عنه بعد وفاته، ونشر فى مجلة الشموع فى ٢١ يوليو ١٩٩١ وهو بعنوان (نفحات من الله .. لا عبقرية .. ولا إبداع)، وكان يقول: (الإيمان فى حياة محمد عبدالوهاب حقيقة وليس نفاقا، لم يكن يسمى فنه شطارة أو عبقرية أو إبداعا،

بل كان يسميه خواطر ونفحات من الله سبحانه وتعالى، وكان إذا وُفق فى عدة ألحان، يقول ربنا فتح علىّ أو ربنا نفخ فى صورتى، وكانت له أيام الصبا نزوات وهذه روايات حكاها لى بنفسه، وكان حين يخطئ ويتغلب عليه ضعفه، يقسم ألا يعود إلى الخطأ مرة أخرى، وكان يدعو الله أن يساعده فى التغلب على نفسه وكان يتوسل، فالله خالق الجمال ومتذوق الجمال، والفنان عاشق لكل أشكال الجمال، ولابد أن يكون له عند الله هامش من حرية يدخل فى مجال المغفرة، بهذا كان يتوسل إلى الله ويتعذب وإحساسه الداخلى بأنه يخطئ كان مصدر قلق يلازم إيمانه الراسخ بعدل الله وقوته ومغفرته،

وكان يبكى كالأطفال وهو يعترف لى بأن كل الذنوب التى اقترفها فى حياته قد اقترفت فى حقه بعد ذلك، وهذا هو القصاص العادل فى الدنيا، لقد دفع ثمن أخطائه باهظا، فالبيئة الدينية التى نشأ فيها منذ طفولته كان لها أثر كبير فى حياته، ونجد أن التلاوة القرآنية والرجع القرآنى الكامن فى باطنه يبدوان جليين فى أغانيه للقصائد، فنرى (الفقى) واضحا فى أبيات كثيرة من (يا جارة الوادى)، وكان يقف طويلاً أمام مقالى (عظماء الدنيا وعظماء الآخرة)، ويقول لى (عششت فى مخى أننى لست من عظماء الآخرة لأننى من عظماء الدنيا)، فالأخلاق هى التى تقود إلى الصواب وإلى الله، لأن الله قال (وإنك لعلى خلق عظيم)، ولم يقل على علم أو فن عظيم، وذو الخلق يرفع ويحتمل،

ولهذا فقد سميت الآخرة رافعة خافضة، وكان عبدالوهاب رجلاً مدركاً لعيوبه ومميزاته، وبداخله تجد الإنسان المصرى الشرقى المتدين المؤمن، وكان يطلبنى فى الواحدة بعد منتصف الليل ليناقشنى فى الثواب والعقاب، ويبكى بشكل متصل. إن الإيجابيات فى شخصية عبدالوهاب أكثر بكثير من السلبيات فهو إنسان فيه سماحة ووداعة وخصال طيبة، فلم أره مرة يغضب أو يشتم أو يظلم، وكان صبوراً لديه الجلد وطول البال وقوة التحمل، وكان بداخله السياسى والدبلوماسى، وهى أخلاق العظماء، فلو أنه اتجه إلى غير الفن لكان من كبار الساسة فى العالم، وهو من القلائل الذين جمعوا بين الفن والحكمة».

وانتقل المفكر الكبير إلى الشائعات التى ترددت حوله بقوله: «الشائعات تطاردنى منذ طفولتى، منذ أن ظن الجميع أننى سأموت بعد أيام من الولادة لأن توأمى مات، رحلة طويلة مع الشائعات كنت أنا قبطانها الوحيد، وكنت أتعامل معها بأن أستمتع وأضحك أحياناً، وأغضب بشدة وأبكى فى أحيان أخرى، ولكن فى كل الأحوال كانت الشائعات تدفعنى إلى العمل باجتهاد، ولم تهزمنى فى يوم من الأيام، ولم تؤثر على علاقتى بالآخرين، وبعد كل شائعة تنتشر كالنار فى الهشيم كنت أتلقى اتصالات تليفونية من الناس والأصدقاء والأقارب ليطمئنوا علىّ،

وكل هذه الشائعات ظهرت مرة واحدة وكانت مختلفة وغير مفهومة ودون سابق إنذار، والغريب أن الناس يصدقون أى شىء على الإطلاق، وكانت أشهر الشائعات التى رافقتنى سنوات طويلة، هى أننى أصبت بلوث عقلى وانتابتنى حالة هستيرية نقلت على أثرها إلى مستشفى الأمراض العقلية، وكانت هذه الشائعة، بالتحديد، صاحبة الانتشار السريع بين جميع فئات وطبقات المجتمع، حيث أذكر أننى كنت أزور بعض أقاربى فى طنطا، وشاهدنى الناس فأصابتهم الدهشة.. فكيف أكون فى الشارع وفى الوقت نفسه فى مستشفى الأمراض العقلية!

ورغم تكذيبى الشائعة وظهورى المتكرر بعدها على شاشة التليفزيون أقدم حلقات برنامجى، فإن هناك كثيرين مازالوا يعتقدون صحة هذه الشائعة، وهناك شائعة أخرى غضبت جدا منها لأنها كانت تمس أحب البشر إلى قلبى وهى ابنتى أمل، وكانت الشائعة تتعلق بأننى بدلت دينى بسبب إصابتها بمرض خطير، ورأت السيد المسيح فى المنام وقال لها إن لم يتنصر والدك فلن تشفى أبدا من هذا المرض، فلبيت النداء على الفور وذهبت إلى الكنيسة وتم تعميدى وتنصيرى،

ولما تنصرت شفيت ابنتى، وذهبت بعد ذلك إلى الدير أتعبد فيه مع البابا شنودة والأنبا بيشوى، وكلها شائعات لا أساس لها من الصحة مطلقا فكيف أكون مسيحياً أؤدى الصلوات فى الكنائس وأتعبد فى الأديرة، وقد بنيت مسجداً لله وأعيش بداخله وأصلى فيه جماعة مع المسلمين الذين كانوا يفاجأون فى صلاة الجمعة بأننى أصلى معهم فيتأكدون من كذب الشائعة، والحقيقة أننى حاولت كثيراً أن أعرف مروجيها، لكننى لم أجد تفسيراً لها سوى أن الخصوم، الذين عجزوا عن هزيمتى بشتى الطرق، لجأوا إلى الشائعات اعتقاداً منهم بأنها قادرة على هدمى، خاصة أننى أعتقد دائما أن أعدائى إذا عجزوا عن مواجهتى أو افتقدوا الوسائل التى ينالوننى بها فسوف يوجهون لى طعنة فى الظهر،

وأعتقد أن ما كان يطاردنى من شائعات هو هذه الطعنة، واكتشفت بعد ذلك أن الرموز الإسلامية فى مصر مستهدفة دائماً، خاصة إذا كانت تحمل فكراً جديداً ومستنيراً، وأنا أعتبر نفسى أحد هذه الرموز، خاصة بعد إصدارى كتاب (التفسير العصرى للقرآن)، وكتباً ضد الشيوعية وإسرائيل، ولهذه الأسباب أعتقد أن المخابرات الإسرائيلية كانت وراء جزء كبير من الشائعات التى طاردتنى، خاصة بعد حملة الهجوم العنيفة التى قمت بها ضدهم فى أوائل التسعينيات،

ومعلوماتى تؤكد أن الموساد يتمنى دائما أن تتحول مصر إلى ساحة من الاختلافات الدينية، وإلى ساحة حروب أهلية بين المسلمين والمسيحيين، لكن محاولاتهم كانت تفشل لأننى أفهم خططهم جيداً، وكنت أقف لهم بالمرصاد، لكن لا يوجد شك فى أن مصر مستهدفة دائماً، كما أعتقد أن خصومى ممن ينتمون للجماعات الإسلامية كانوا من بين مروجى هذه الشائعات، وتوقعت أكثر من مرة أن يتم اغتيالى، ويبدو أن وزارة الداخلية شعرت بنفس الشىء فعينت حارساً يرافقنى أينما أذهب، ويرابض أمام باب شقتى، لكننى كنت وما زلت مؤمناً بأن لكل أجل كتاباً (وما تدرى نفس ماذا تكسب غداً وما تدرى نفس بأى أرض تموت)،

وعندما تقدم بى العمر وأصابتنى أمراض الشيخوخة واختفيت نهائياً عن الساحة الاجتماعية والإعلامية، توقعت أن تتوقف الشائعات، لكننى فوجئت منذ عدة سنوات بأحد أصدقائى يخبرنى بأن أحد أقاربه كان فى الحج وقال له إنه شاهدنى بجوار الكعبة أعمل خادماً فى حرمها، وأعيش حالة عالية جداً من التصوف والزهد، وأسعدتنى هذه الشائعة للغاية لأننى أثناء سنوات عزلتى الأخيرة كنت أناجى ربى فى صومعتى ووحدتى، وأصلى له، وأعيش حالة عالية من التصوف، فقد أيقنت بأن الله هو الهدف والغاية، ومن الممكن أن تكون المعجزة تحققت بأن تنتقل الروح إلى ما تحب فى حالة روحانية عالية، لكننى كذبتها بالطبع،

ورغم تقدمى فى العمر ووصولى إلى الثامنة والثمانين فمازال هناك من يخرج بالشائعات ويروجها، وآخر ما خرج من شائعات، وأعلن مروجها عن نفسه لأول مرة الدكتورة لوتس عبدالكريم، وهى إحدى صديقاتى، وزوجها أيضا صديق قديم لى، والغريب أنها سجلت الشائعة التى استعجبت لها كثيرا فى كتابها عنى (مصطفى محمود.. سؤال الوجود)، حيث قالت إننى أخبرتها بأننى على علاقة بالجن وأستعين به فى قضاء حاجات أصدقائى من أصحاب المشكلات، وإننى وصفت لها كيف كان يشتعل الممر المفضى إلى غرفتى بالنيران حين أستدعى الجان، وكيف كان يدخل إلىّ ويحتضننى بشدة فيغمى علىّ فترة غير قصيرة، وأن الألم كان هائلاً فى البداية،

ثم اعتدت عليه فلم أعد أعانى من شىء لأن الجان أصبح صديقى ويفضى إلىّ بكل ما يريد ويحقق لى ولأصحابى المعجزات، وكانت هذه الشائعة أكثر الشائعات افتراءً، لكن لوتس اتصلت بى بعد ذلك لتوضح أنها لم تقصد الإساءة، وأن الكلام نشر محرفاً».

وينهى المفكر الكبير الراحل حديثه بقوله: «بالفعل كنت شغوفاً بالتعرف على عالم الأرواح والجان، وحاولت كثيراً، كما ذكرت فى شبابى ومراحل متقدمة من عمرى، التعرف على هذا العالم الخفى والغريب، لكنى لا أستطيع أن أفعل كل هذه الأشياء التى ترددت عن علاقتى بالجان، خاصة بعد أن أصبحت فى أواخر عمرى، وبعد أن هدأت نفسى، ووصلت إلى اليقين، وأحببت التفاف أبنائى وأحفادى حولى، بعد رحلة طويلة من البحث والسفر وعدم الاستقرار»

مذكرات المفكر الكبير د.مصطفى محمود : (الحلقة ٢٤) حكايتى مع التصوف والمتصوفين

■ إن الحانوتى يسلب الموت كل هيبته بأن يجعله وظيفته وكذلك أنا أسلب الحياة كل بكارتها بأن أجعلها شغلتى

■ حاولت أن أناقش مشاكلنا كلها من جديد وأطرح التركة الفكرية التى ورثناها عن الجدود فى غربال واسع الخروم ليسقط منها الفاسد ويبقى الصالح

مصطفى محمود

العشق الإلهى.. والرجوع إليه.. والاعتراف بأنه الواحد الأحد.. كلها أشياء ولد مصطفى محمود يحملها بداخله.. لقد كان متصوفا منذ اللحظات الأول فى عمره لذا نجده، مر بمراحل متنوعة ومختلفة فى حياته بداية من الشك وانتهاءً بالإيمان والتصوف، وكان تصوفه يرافقه طوال مراحل الشك أو الإلحاد كما أطلق عليها البعض، فقد ولد مصطفى محمود متصوفاً مفعماً بحب الله منذ زمن بعيد، وكان وهو فى مطالع المراهقة يتساءل - فى تمرد- تساؤل كبار أقطاب الصوفية كالحلاج وابن عربى والنفرى والغزالى وأبوالعزايم والشعرانى.. وكانت كتبه «الله والإنسان» و«السر الأعظم» و«رأيت الله» و«لغز الحياة ولغز الموت» وغيرها، خير دليل على تصوفه وعشقه للذات الإلهية.

عندما فتحنا معه هذا الباب من الكلام ابتسم وقال كنت دائما أؤمن بأننى خلقت لأتساءل من أجل أن أثبت أنه الواحد الأحد، وكنت أقول «تقولون إن الله خلق الدنيا، لأنه لابد لكل مخلوق من خالق ولابد لكل صنعة من صانع ولابد لكل موجود من موجد.. صدقنا وآمنا.. فلتقولوا لى إذن من خلق الله.. أم أنه جاء بذاته.. فإذا كان قد جاء بذاته وصح فى تصوركم أن يتم هذا الأمر فلماذا لا يصح فى تصوركم أيضا أن الدنيا جاءت بذاتها بلا خالق وينتهى الإشكال»، ولكن كنت أتوقع أن أجد من يجاوب عن أسئلتى ويفهمنى الصواب، ولكن لسوء الإدراك لدينا نحن المصريين..

كنت أجد أن نتائج ما أطرحه من أسئلة هى اتهامى بالكفر والإلحاد، رغم أن كل هذه الأسئلة لا تنم عن ملحد ولا تبشر الأرض بظهور كافر وإنما كانت تنم عن أن مرددها ليس طفلا صغيراً مدللاً، أقصى أحلامه لعبة يستمتع بها بعض الوقت ثم يحطمها، أو شاب فى مرحلة المراهقة يجرى وراء شهواته الجنسية أو المادية.. وإنما كانت هذه الأسئلة تنم عن أننى أجرى وراء شهواتى الفكرية، لأكتشف الحقيقة الوجودية، فقد كنت أقول بكل جرأة وبدون أن أخشى صفعة على وجهى أو عصا على ظهرى «لقد رفضت عبادة الله لأننى استغرقت فى عبادة نفسى،

وأعجبت بومضة النور التى بدأت تومض فى فكرى مع انفتاح الوعى» وأيضا كنت أردد أن هذه الحالة النفسية وراء المشهد الجدلى الذى يتكرر كل يوم وغابت عنى أيضا أصول المنطق، وأنا أعالج المنطق ولم أدرك أننى أتناقض مع نفسى إذ أعترف بالخالق.. ثم أقول ومن خلق الخالق فأجعل منه مخلوقا فى الوقت الذى أسميه فيه خالقاً، وهى السفسطة بعينها.. ثم إن القول بسبب أول للوجود يقتضى أن يكون السبب واجب الوجود فى ذاته وليس معتمدا ولا محتاجا لغيره لكى يوجد أما أن يكون السبب فى حاجة إلى سبب فإن هذا يجعله واحدة من حلقات السببية ولا يجعل منه سبباً أول».

ويستطرد: «كنت أتعجب من كل الجدل الذى أواجهه بمجرد أن أتساءل وأستطيع الآن أن أقول إن هذه هى أبعاد القضية الفلسفية التى انتهت بأرسطو إلى القول بالسبب الأول والمحرك الأول للوجود وهى هذه الأفكار التى دفعته إلى الأمام.. وتستطيعون أن تقولوا إنها فعلت معى نفس الحكاية فكانت بداية التفكير والوصول إلى ذروة الإيمان والتصوف بداخلى، ولكن بمجرد أن اشتد عودى وخرجت إلى مرحلة الشباب وبدأت هذه الأفكار تخرج إلى المجتمع فى كتبى وبالأخص كتابى الأول «الله والإنسان» وجدت أن مشايخ الأزهر يصدرون فى الستينيات فتوى بتكفيرى «كما حدثتكم من قبل» وخرج بعض الشباب المتهور تحت لواء الجماعات الإسلامية التى تدعى الحفاظ على الإسلام والمسلمين ليحاولوا اغتيالى لمجرد أنى أتساءل..

وبالفعل نظموا هذا وكانوا حوالى إثنى عشر طفلاً، لأن أعمارهم حين ذاك لم تكن تتجاوز أربع عشرة سنة، ولكنى نفدت من هذا الاغتيال بأعجوبة وجلست معهم وطمأنتهم على أننى لن أبلغ عنهم ووجدت أنهم بحاجة إلى الشفقة وليس للسجن، حيث إنهم مازالوا أطفالاً لا يدركون ما يفعلون ولا يحفظون من القرآن والسنة ما يؤهلهم للدفاع عنهما.. ولكن تصوروا أن هذا كله يحدث معى وأنا مجرد باحث عن الحقيقة الوجودية وهذا من حقى ولا يمكن لأحد إجبارى على حجب أفكارى..

والغريب فى الأمر أننى كنت أطرح كل هذه الأسئلة التى لم يتسع لها عقول المتزمتين وكانت هى نفسها التساؤلات التى سألها من قبلى بقرون العديد من أقطاب الصوفية الكبار أمثال الحلاج وابن عربى والنفرى وعفيف الدين التلمسانى وعبدالوهاب الشعرانى وأتباعهم من بعدهم، وللأسف وجدت أن كل هؤلاء الأئمة العظام واجهوا جميعا نفس المصير الذى كنت أواجهه، وكأننا جئنا إلى بشر فضلوا الجعجعة الفاضية على العقل والمنطق والتفكير.. ولكن كان عصر هؤلاء الصوفية الكبار أكثر قسوة فصلب ابن عربى حتى الموت وأيضا الإمام الشعرانى وغيرهم كثيرون.

ويتابع مصطفى محمود «رغم كل الصعاب التى كنت أمر بها فإننى ظللت ثابتاً على موقفى وكنت أقول دائما إن الزاهد الموحد لا يقول أنا ولا يقول أنت ولا يقول هم ولا يقول نحن.. بل يقول هو لا يرى إلا هو.. ولا يقصد إلا هو.. لا إله إلا هو.. لا يخشى إلا هو.. ولا يتقى إلا هو.. ولا يرى ظاهرا ولا باطنا إلا هو.. فإذا أكل فهو يأكل من يده هو.. وإذا شرب فهو يشرب من كفه هو.. وإذا تلقى الرزق فمنه هو.. وإذا تلقى الحرمان فبتقديره هو.. وإذا قضى عليه بالشقاء فبقضائه هو.. «قل كل من عند الله»..

فإذا صبر فهو يصبر بالله على الله.. وإذا هرب فإنما يهرب من الله إلى الله.. وإذا استنجد فإنما يستنجد بالله على قضاء الله.. وإذا استعاذ فإنما يستعيذ بالله من قدرالله.. يستعيذ به من بلائه.. وما الشيطان فى النهاية إلا ابتلاء الله لعباده.. وما الكون إلا مظاهر أسماء الله وتجليات صفاته وأفعاله.. فهو لا يرى فى أى شىء إلا الله وفعل الله.. وهذا مطلق التوحيد.. وهذا غاية ما تقوله الأسماء لقلب المسلم.. فهى تقوده إلى مطلق التوحيد».

ويقول «فوجئت بأننى وصلت إلى النتيجة الطبيعية وهى أننى أنظر إلى كل الأشياء.. وكل المخلوقات.. نظرة الصوفى الذى آمن بأن الله ينزل فى كل المخلوقات وما المخلوقات إلا وسيلة للتعبير عن الله فيرى كل شىء بوضوح ويسر.. دون طلاسم أو ألغاز أو صعاب فمن يضل فى طريق الله ومن يسأل الناس والله بجانبه ومن يرى بشر والله أمامه وكان بحثى فى التصوف مختلفاً بعض الشىء عن أتباع الطرق المختلفة والمتنوعة.. فكنت أبحث لأننى أريد أن أكتشف الجديد حتى فى هذا الجانب «التصوف» وبالفعل وجدت أن قدماء المصريين «الفراعنة» عرفوا التصوف والإيمان والتفانى فيه وله ومن أجله، حيث كان يقول «هيرودوت»

إن المصريين القدماء كانوا أول الموحدين فى العالم وإن بقية العالم أخذ الدين عنهم فأخذت الهند شعائرها واليونان عقائدها من مصر.. وقد كانت بداية هذا التوحيد فى عصر «أمنحتب» فى تلك الترنيمة المحفورة على لوحة بالمتحف البريطانى وهى صورة ابتهال ومناجاة للإله.. ونصها هو.. «أيها الصانع الذى صورت نفسك بنفسك وصنعت أعضاءك بيديك.. أيها الخالق الذى لم يخلقك أحد.. الوحيد المنقطع القرين فى صفاتك.. والراعى ذو القوة والبأس.. والصانع الخالد فى آثاره التى لا يحيط بها حصر»، ويصل هذا التوحيد إلى ذروة فى النقاء والتجريد على يد إخناتون، حيث وجدت أنهم كانوا ينادونه بقول: «يا أتون الحى يا بدء الحياة.. إنك بعيد متعال..

ولكنك تشرق على وجوه الناس.. إنك تمنح الحياة للجنين فى بطن أمه.. وتعنى به طفلا.. وتسكن روعه فلا يبكى.. وتفتح فمه وتعلمه الكلام.. وتدبر له ما يحتاج إليه فى حياته.. وتعلم الفرخ كيف يثقب بيضته ويخرج.. وما أكثر مخلوقاتك.. يا واحد يا أحد ولا شبيه لك.. لقد خلقت الأرض حسبما تهوى.. خلقتك وحدك ولا شريك لك.. وخلقت ما عليها من إنسان وحيوان.. ودبرت لكل مخلوق حاجاته.. وقدرت له أيامه المعدودة.. وجعلت الناس أمما وقبائل ولغات متعددة.. وجعلت لهم الشتاء ليتعرفوا على بردك.. والصيف ليذوقوا حرارتك.. وصورتهم فى بطون أمهاتهم بالصور التى تشاء.. وأنزلت لهم الماء من السماء.. ليجرى أمواجا تتدافع وتروى حقولهم.. ما أعظم تدبيرك يا سيد الأبدية.. إنك فى قلبى.. وليس هناك من يعرفك.. غير ابنك الذى ولد من صلبك.. ملك مصر العليا والسفلى.. الذى يحيا فى الحق.. سيد الأرضين إخناتون».

ويوضح مصطفى محمود «فى هذه الفترة وجدت أننى يجب أن أخرج ما بداخلى من مشاعر التصوف فبدأت أقوم بإعداد بعض الكتابات الصوفية خاصة أننى متيم بهذه الحياة التى هجرت كل شىء من أجلها فكتبت قصة قصيرة عن هيام وحب وتجلى الصوفى الذى يرى الله فى كل شىء ويرى كل الأشياء الجميلة فى الله وداخل هذه القصة وجهت إلى بعض الصوفية فى مصر وليس المتصوفين نقدا حادا، حيث إننى وجدت أن هناك مسألة لا يمكن الصمت عنها وهى الخلط بين الظاهر والباطن.. وبين الأشياء والله.. حينما يدعون على الله أشياء غير حقيقية، وهو ما أغضب الكثير منهم بعد ذلك ووجهوا لى نقدا شديداً وكانت القصة هى الآتية:

«مد الرجل ساقيه فى البحر فى استرخاء لذيذ ونظر إلى البحر المديد الأزرق كأنه يشرب ويشرب لونه وترك روحه ترضع من هذه الشفافية اللؤلؤية والأنوار المتشععة الذائبة فى المياه.. شىء ما فى ذلك البحر كان يبدو لعينيه وكأنه من وراء العقل ومن وراء الحس شىء كالغيب يسطع خلال الظاهر، وتذكر كلمات ذلك الصوفى الذى قال إنه اشتاق إلى ربه وأنه احترق إليه شوقا وكاد عقله يهُلك عجزا عن بلوغه لولا أن نور الله كان يلوح له من وراء استار الغيب ومن خلال الجمال المتجلى فى الوجود فيروى ظمأه بين الحين والحين، وذلك هو الشرب والسكر الذى يحكى عنه الصوفية شرب الجمال المتجلى فى الوجود ذلك الشرب المغيب الذى يترك الروح نشوانة هيمانة تهتف.. الله.. الله.. وقد أدرك صاحبنا فى جلسته أمام البحر لأول مرة ذلك المعنى البعيد الذى يحكى عنه الصوفية، وشعر بذلك الشرب المغيب وهتفت روحه النشوانة، وقد أدركت طرفا من تلك الحضرة الإلهية المتجلية فى الأشياء التى هتفت فيها هيمانة سكرانة.. الله..

لقد اتصلت روحه لأول مرة بنبع الحُسن ومصدر الفتنة وسر الجلال والجمال فى الأشياء، وباشر تلك الرجفة الكهربائية وأحس بتلك الرعشة الروحية وهو يلامس السر السارى فى الوجود وفى نفسه وذلك هو حضور المحبوب المعشوقة التى كان يسأل عنها المحب الهيمان طوال الوقت ويبحث عنها ويرتحل اليها، هى طوال الوقت معه دون أن يدرى فى سواد عينيه وفى حنايا ضلوعه وأقرب اليه من حبل الوريد:

ومن عجب أنى أحن إليهمو

وأسأل عنهم من رأى وهمو معى

وترصدهم عينى وهم فى سوادها

ويشتاقهم قلبى وهم بين أضلعى

فما كان الحسن والجمال والفتنة التى لمح طرفا منها فى الشفاه والخدود والقدود إلا مددا من ذلك الغيب المغيب، ولا كان إلا تجليا لذات الحسن المتفردة «الذات الإلهية» التى هى أقرب إليه من نفسه وأقرب إلى عينيه من سوادهما وأقرب إلى لسانه من نطقه، إن ليلاه فيه وهو يقطع البوادى بحثا عنها «وذات الحسن المتفرد» التى أفاضت من حسنها البديع على كل شىء أقرب إليه من حبل وريده، وأوثق اتصالا به من دمه فى شرايينه، وحينما يدرك الصوفى ذلك يصيبه برد السلام ويهدأ فى جوانحه طائر القلب وتنشر عليه السكينة لواءها ويصبح صاحب الوجه النورانى والنفس المطمئنة الذى لا تزلزله الزلازل ولا تحركه النوازل».

ويستطرد «شعر صاحبنا بتلك الأنوار وهو جالس أمام البحر وأمامه قطف من عنب مثلج ورأى كل حبة عنب وكأنها تختزن داخلها نورا، وحينما ذابت فى فمه بردا وحلاوة شعر كأنما تعطيه سرها وتبوح له بمكنونها، وكان فى تذوقه لحلاوتها شيئا كالعبادة، وكأنما كان ربه هو الذى يطعمه ويسقيه مباشرة وبدون وساطة، ويناوله من كف الرحمانية ليأكل ويشرب.. وتذكر قول عميد العاشقين الإلهيين ابن الفارض حين قال:

شربنا على ذكر الحبيب مدامة

سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم».

ويتابع مصطفى محمود «إن وصف الشاعر بخمر الكرم من قبل أن يخلق الكرم ويقصد بها خمر السر المودعة فى الأشياء من قبل أن تخلق الأشياء، تلك هى خمر الأنوار المودعة كل الأشياء، وكل مؤمن مازال يعاود السجود مثل الملائكة كلما استشعر هذه الأنوار وكلما باشر سرها وذاق حلاوتها سجدت جوارحه وهتفت.. الله.. الله.. ووشوش له البحر بهذه الكلمات وكاشفه بتلك الأسرار وهو يهدهده بأمواجه ويتناثر كحجاب الماس على وجه ساقيه، وبقدر ما كانت صفحة البحر تبدو له هادئة ساكنة مطمئنة كان باطن البحر يقول له: باطنى وسع العالمين وسع الحياة والموت وسع كل شىء علما.. كان البحر أشبه بالرمز المهموس والإشارة الدالة والمثل المضروب على القدرة..

فهو الظاهر سبحانه ولكنه ليس المظاهر وتلك هى الفتنة التى يقع فيها المؤمن والكافر، تقول له المظاهر الجميلة وهى تدعوه إلى نفسها بجمالها فى سورة البقرة: «إنما نحن فتنة فلا تكفر» فإذا افتتن بها ووقع فى أسر جمالها وعبدها وقع فى الشرك الخفى وهلك، وذلك هو حال الأغلبية والكثرة من عشاق المظاهر وعباد المال والجاه والنساء، وإذا أدرك أنها فتنة ليست منها ولكن من الله المتجلى فيها، وأنها كالمصابيح فى زجاجات.. مصابيح لا تضىء بذاتها وإنما بمدد وأسلاك من شجرة مباركة هى التى تأتى منها الإنارة لكل المصابيح،

فإذا أدرك ذلك تجاوز بعبادته كل المظاهر وكل المصابيح المنيرة وتوجه إلى الله الذى ينيرها كلها بنوره وخرج من زحام الكثرة إلى صفاء الوحدة واختص الله وحده دونها بالعبادة ونجا، وهو حال القلة من العارفين وهذا سر الدنيا ولهذا خلقها الله لتمتحن بإغرائها معادن النفوس ويتميز بها العارف من الجاهل وتتميز بها المراتب والمنازل والدرجات ويعرف بها أهل الصدق صدقهم وأهل الكذب كذبهم حينما تنشر الأعمال وتهتك الأسرار فى يوم الحشر ويوم التغابن الذى لا ينفع فيه ادعاء الأدعياء ويوم يشعر كل إنسان أنه غبن نفسه حينما تعجل لذة تافهة وزائلة لا تساوى شيئا وحرم نفسه من ميراث جنة لا تنفد لذائذها.. ووشوش له البحر وهمس له الموج وتناثر كالماس على وجهه وقدميه واتصل السر بالسر ومضى الحوار».

ولكن بعد كل هذه الرحلة الصوفية شديدة التجلى ختم مصطفى محمود حياته متصوفا فى حب الذات الإلهية التى بحث عنها كثيرا ووجدها أخيرا ثابتة كما نزلت على كل الأنبياء والرسل فهى محور كل الأشياء وأصل كل الأشياء ولولاها ما خلقت الأشياء كلها.. وهو هنا يقول .. «لم تكن رحلة البحث التى غُصت فيها بكل أعماقى وجسدى وفؤادى طوال حياته لتشككى فى الذات الإلهية، وإنما لأتحول إلى صوفى وعندما وجدت ما سعيت إليه سررت بما وجدت وعشت فى هيام وحب «الواحد الأحد» هدأت نفسى واطمأن قلبى وشعرت بأننى أديت ما خلقت من أجله وهو الإشارة إلى الثوابت الوجودية التى لابد أن نؤمن بها ولا نحيد عنها ولهذا كتبت أقول:

المـعـذرة.. حبيبتى برئت من يدى.. وبرئت من عينى.. وبرئت من فعلى.. وبرئت من جلدى.. إن كانت النوايا أثمة.. وخوفى من علم ربى بالسرائر.. ويلنا ظلمنا أنفسنا.. هلكنا من اليوم لا نجاة.. إن لم نفز بمغفرة.. يا ضيعة العمر إن لم نفز بمغفرة.. بل لا ييأس من روح الله إلا الكفرة.. ظلمت ربى الغفار الذى وسع كل شىء رحمة وعلما والذى خلق الضعف.. كيف لا يحنو عليه أكثر من حنو الأم بالوليد.. كيف لا يشفيه من نفسه ويرحمه»